في وقت عاد فيه مفتي جمهورية مصر العربية علي جمعة
من زيارة القدس المحتلة، وبعد صلاته في الأقصى الأسير أول أمس الخميس؛ في ذلك الوقت
قدم عمرو موسى برنامجه الرئاسي وسماه 'رؤيتي للجمهورية الثانية'. وهناك من رد على موقف
المفتى 'التطبيعي' بدعوة طلاب جامعة الأزهر وجماعات من النشطاء والثوار للتظاهر ضد
تصرفه المدان سياسيا ودينيا وإنسانيا؛ لكن برنامج عمرو موسى أكبر رؤوس التطبيع في مصر
والمنطقة مر بغير تغطية أو تعرية؛ ليظهر الفرق بين 'تطبيع خشن'؛ يصدم الناس، بما يحيطه
من ضجيج وضوضاء، وبين 'تطبيع ناعم' ترعاه جماعات سرية وتتبناه محافل خاصة؛ بخطاب ناعم
وقول مراوغ؛ يتسلل إلى العقول، ويتغلغل في النفوس إلى أن تعتاده وتتعايش معه، فيتحول
إلى سرطان ينهش المبادئ ويفتت المجتمعات، ويستحق موسى جائزة 'التطبيع الناعم'. إن وجدت
ثمة جوائز تمنح مكافأة على مثل هذه الجريمة!!.
عمرو موسى أحد رعاة التطبيع الكبار، وكان تعيينه
وزيرا للخارجية المصرية إيذانا بنهاية الخط الوطني في 'الخارجية'، بعد أن صمدت في مواجهة
التطبيع إلى بدايات تسعينيات القرن الماضي. وهو كظاهرة صوتية يتعاطى الخطاب الناعم
والقول المراوغ، وتناقضه واضح بين ما يدعيه ويمارسه.
لم يُقَصر المرشح الرئاسي في واجبه تجاه الدولة
الصهيونية، وقدم لها الكثير مع تقلده منصب الوزارة؛ بدءا من 'مؤتمر مدريد'؛ الحلقة
الأهم من 'تعريب' كامب ديفيد، وفي القضاء على حلم تحرير فلسطين وعودة لا جئيها إلى
أراضيهم وبيوتهم. و'الجمهورية الثانية' التي يدعو لها ليست جديدة؛ كانت قائمة وما زالت
فلولها تعمل على العودة، ودانت له بالفضل، واستجابت لطموحاته في نقل مصر من التقدم
إلى التخلف، ومن الاستقلال إلى التبعية، ومن العروبة إلى الصهينة، ودعوته خدعة لتشويه
التاريخ، وإلغاء الذاكرة العامة؛ فينسى الشعب جمهوريته الأولى، التي أعلنت في 18 يونيو/
حزيران 1953 واستمرت حتى 13 مايو/ أيار 1971، وكانت جمهورية ثورة وجلاء وتحرير وعداء
للاستعمار، وتطهير ومحاسبة وقصاص وتنمية مستقلة وتصنيع واستصلاح أراض، واشتراكية وعدل
اجتماعي، ووحدة وطنية وقومية، وعدم انحياز.
وجاءت 'الجمهورية الثانية'، على أنقاضها بقواعدها
الجديدة، وتوجهاتها المغايرة، ودستورها مختلفا. وانتهت حكما معاديا للشعب والأمة؛ صهيونية
الوجه استعمارية التوجه.
وبدأت مع السادات ومرت بمراحل من فك الاشتبك الأول
ومحادثات الكيلو 101عقب حرب اكتوبر، وزيارة القدس المحتلة، ثم توقيع معاهدة الإذعان
في 'كامب ديفيد'، وصولا إلى اختفاء مؤسسها وانتقالها إلى حسني مبارك، الذي اختزلها
في عائلته وحولها إلى متاع يُوَرث وتم رهنه لتل أبيب.
وفي ظل 'الجمهورية الثانية' أوكلت إلى عمرو موسى
مهمة ترويج التطبيع وتعريبه. فأنشأ 'الجمعية المصرية للسلام'، التي عرفت بجماعة كوبنهاغن،
وواكبها إقراره بحق الدولة الصهيونية في الاستيلاء على الغاز المصري، وجريمة وثقتها
صحيفة 'اليوم السابع' بنشر خطاب موقع منه كوزير للخارجية في 12/11/ 1993 إلى وزير البترول
يوافق فيه على 'تصدير' الغاز للدولة الصهيونية، ونشرت الصحيفة الرسالة في 26/6/
2011، وكانت الجريمة مجهولة حتى نشر الخطاب!.
اعتاد عمرو موسى في تصريحاته قبل نشر الخطاب على
رفض صفقة الغاز ووصفها بـ'الصفقة الاقتصادية الفاشلة'، أثناء لقائه بقيادات وشباب ائتلاف
25 يناير بمحافظة أسوان في 26 نيسان/أبريل من العام الماضي.
من جهة أخرى وجدنا وزارة الخارجية الدنماركية توجه،
في تسعينات القرن الماضي، عن طريقه دعوة إلى لطفي الخولي، وأحمد فخر، ومحمد سيد أحمد،
ومنى مكرم عبيد للقاء يُعقد بين مثقفين وكتاب مصريين ورجال مخابرات ومسؤولين صهاينة؛
وضم الفريق الصهيوني ديفيد قمحي - من أشهر ضباط 'الموساد'، وارتبط اسمه بفضيحة وقعت
في 1954؛ عرفت بـ'فضيحة لافون' - وكان 'الموساد' قد أرسل بعض ضباطه وعملائه للقيام
بتفجيرات استهدفت المصالح والهيئات الدبلوماسية والمراكز الثقافية الأمريكية في القاهرة
والإسكندرية؛ منعا لنمو علاقات كانت قد نشأت بين القاهرة وواشنطن، وكانت المجموعة المنفذة
من يهود مصر؛ هاجروا إلى الدولة الصهيونية. ونعود إلى الفريق الصهيوني، فنجد إلى جانب
قمحي عاموس الون، واشر ساسر (مدير معهد ديان في تل أبيب) وافيشاي مارجيليت. وتم اللقاء
التمهيدي في لندن مطلع 1995.
عقد أول لقاء رسمي في كوبنهاغن في ايلول/سبتمبر
من نفس العام. وانتهى بالموافقة على توصية تل أبيب بإيجاد آليات تنشر التطبيع وتروج
تحت مظلة 'العمل من أجل السلام'. وجرى اللقاء الثاني في شباط/فبراير 1996 واشترك فيه
لطفي الخولي، ومحمد السيد سعيد، وجمال عبد الجواد، وسميحة فوزي. ومن الجانب الصهيوني
دان ميريدور (وزير المالية وعضو قيادة الليكود)، وديفيد قمحي، وشولاميت هاريفي، وجوناثان
ليرنر. وجرى اللقاء الثالث في 13/5/1996، وتوقف بسبب العدوان على لبنان وارتكاب الجيش
الصهيوني مجزرتي قانا والنبطية.
وخلال دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة في ايلول/سبتمبر
من العام نفسه طلب وزير خارجية الدنمارك من عمرو موسى التدخل لدى المثقفين المصريين
ليَعْدِلوا عن موقفهم ويعودوا للتفاوض مع الفريق الصهيوني.
ووصل القاهرة في نهاية عام 1996 ديفيد قمحي وهربرت
بونديك، والدبلوماسي الدنماركي توربين بريل؛ لبدء جولة جديدة مع لطفي الخولي وعدد من
المثقفين المصريين. وانتهت الجولة الرابعة في كانون الثاني/ يناير 1997 بـ'إعلان كوبنهاغن'
المتضمن مبادئ وقواعد التطبيع الشامل.وعلى الفور وجه نتنياهو من واشنطن نداء إلى العرب؛
في شباط/فبراير 1997 يطالبهم بالتكيف مع السياسات الصهيونية. والتكيف هنا مرادف للتطبيع،
ورأت أوساط سياسية أن ذلك طبيعي ومنطقي، وكانت تقاليد 'الجمهورية الثانية' قد استقرت
على التشاور مع 'الموساد' وهذا اعتمد عليه السفير عبد الله الأشعل في حملته ضد ترشيح
عمرو موسى.
وبرنامج عمرو موسى يعني عودة حكم مبارك بسياساته
وآلياته، ونجاحه في انتخابات الرئاسة؛ يأتي خصما من رصيد ثورة 25 يناير وعلى حساب وجودها
ذاته، ويُدخل الثورة في نفق مظلم، وتستمر رهينة بيت الطاعة الصهيو أمريكي، ويبقيها
رديفا محليا وإقليميا لترويج التطبيع، ولإعادة رسم خريطة المنطقة، فتكون أكثر قبولا
بالاحتلال الذي بدأ في العودة تباعا.
هذا قَدْر يسير مما أحاط سيرة غير عطرة لأخطر مرشح
رئاسي، لم يتم التطرق فيه إلى ما فعله بالعراق، ولا بلبنان وفلسطين أو ليبيا، ومنا
من يذكز جهده البالغ للحيلولة دون إكتمال النصاب اللازم لاجتماع الدوحة لنصرة غزة،
وكذلك دوره في 'أطلسة' الثورة الليبية الواعدة وعسكرتها، وتحويلها إلى حرب أهلية؛ قسمتها
بين الفرق والجماعات والقبائل المتنافسة والمتنازعة.
وتتعزز معرفتنا بسيرة موسى بشهادة خامس سفراء تل
أبيب في القاهرة؛ ديفيد بن سلطان، ووردت في كتابه المترجم من العبرية إلى العربية.
تحت عنوان 'بين القاهرة والقدس' ونشر في القاهرة، وفيه حَصْر لـ'زعماء التطبيع'، ووضع
على رأسهم عمرو موسى ونجيب محفوظ وعادل إمام. والمؤلف صهيوني من أصل مصري، ولد بالإسكندرية
عام 1938 ويتحدث اللهجة المصرية بطلاقة، ويؤمن بالتطبيع لأقصى حد. وعُين بمصر في
22 آب/أغسطس عام 1992، وكانت لديه قدرة على استقطاب أعداد متزايدة من المثقفين المصريين.
في الكتاب تقدير لقدرات عمرو موسى، كأحد كبار مهندسي
التطبيع، واقرار بدور أسامة الباز، ومساهمته الكبيرة في تشجيع رجال الاعمال المصريين
على فتح الابواب للاستثمار الصهيوني، واقناع المثقفين والفنانين بجدوى الارتباط بالدولة
الصهيونية، وجاء في الكتاب ان الباز استعان بعادل امام لتوسيع آفاق التطبيع وترويجه!.
وعن ما قدمه رجال الاعمال والاعلام لصالح التطبيع توالت اسماء طارق حجي واحمد خيري
وصلاح نبهان ومحمد شفيق جبر وكامل دياب وحسين صبور، وكان التطبيع طريقهم إلى المناصب
القيادية في الحكومة والحزب الوطني المنحل.
كشف الكتاب ما يمكن تسميته 'جماعات الظل' النافذة
وخلايا التطبيع النائمة. ومن المتوقع أن تكون عونا لعمرو موسى إذا ما وصل إلى قصر الرئاسة،
وتضم ابراهيم نافع ومقالاته الداعمة للتطبيع، وكانت بعنوان 'مصر بعد السلام'، ويضيف
إليها كتابات ابراهيم سعدة وكانت بعنوان 'مرحبا بالتحدي'، ويصف المؤلف الروائي الراحل
نجيب محفوظ بانه كبير المطبعين، وأثنى على من رحلوا من الكتاب، كلطفي الخولي وانيس
منصور وعبد العظيم رمضان، ومن الأحياء علي السمان وعلي سالم، وتطرق إلى ما قام به فاروق
حسني لتنفيذ بنود التطبيع الثقافي، وموافقته على ربط المتاحف والآثار في البلدين؛ وصولا
الى المعارض والانشطة الفنية، وعرج السفير الصهيوني الأسبق على التعاون بينه وبين رئيس
جامعة القاهرة مفيد شهاب عام 1994 في المجال الاكاديمي، ولم يكن سهلا على حد ما ورد
في الكتاب.
هذا هو عمرو موسى؛ المتطلع لحكم مصر؛ وسيجد 'جماعات
الظل' وخلايا التطبيع النائمة جاهزة لخدمته والعمل في بلاطه، وتعاونها شبكات الفلول
ولصوص المال والأراضي والبلطجية والخارجين على القانون، وآخرون محسوبون من عالم الفكر
والثقافة والإعلام والقانون؛ بهم يتم ترميم 'الجمهورية الثانية' ومعالجة تصدعاتها الاقتصادية
والمالية والسياسية والأمنية، فتعود إلى ارتداء ثوب الصهينة المدنس مرة أخرى.
ولن يكون عمرو موسى إلا تطبيعيا و معاديا للثورة،
وعلى الوطنيين والثوار الاحتراس والاحتراز. وتعويض ما فاتهم بتأسيس 'جمهورية ثالثة'؛
تعبر عنهم، وتنفذ مطالب الشعب في الخبز والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وفوق
هذا وذاك تكون جمهورية رافضة للتطبيع والمطبعين، وتضع القضية الوطنية في صدارة أولوياتها.
الثورة في حاجة إلى جمهورية ديمقراطية، ترتكز على نظام ثوري ينشر العدل ويقر المساواة
ويطهر البلاد من آثار 'الجمهورية الثانية'.. جمهورية السادات ومبارك وعمرو موسى ومن
على شاكلتهم!.
' كاتب من مصر يقيم في لندن
No comments:
Post a Comment